الذي يتأملُ في سيرِ العلماءِ والعبَّادِ والزُّهادِ وقوةِ إرادتِهم
وعظيمِ مجاهدتهم يعلمُ أن هذا غيظٌ وحسرةٌ للشيطانِ، ولذلك نرى أن الجهدَ
الأكبرَ الذي يبذله الشَّيطانُ للغوايةِ والوقوعِ في المهلكةِ يوجه إلى
العبَّادِ والأخيارِ، ويبذلُ معهم الحيلَ والأساليبَ التي توقعُ بهم في
لججِ الفتنِ.
الْتَّمْييزُ بَيْنَ طُرُقِ الشَّيْطَانِ وَحِيَلِهِ
فمن الواجباتِ المسلماتِ التي يجب على العبدِ معرفتُها التمييزُ بين طرقِ
الشَّيطانِ وحيلِهِ وإلى ما يترددُ فيه هل هو من لمَّةِ الملكِ, أَوْ من
لمةِ الشَّيطانِ، فَإِنَّ من مكايدِ الشَّيطانِ أن يعرضَ الشرَّ في معرضِ
الخيرِ، وَالتمييزُ في ذلك غامضٌ، وَأكثرُ العبادِ به يهلكونَ، فَإِنَّ
الشَّيطانَ لا يقدرُ على دعائِهم إلى الشرِّ الصَّريحِ فيصورُ الشرَّ
بصورةِ الخيرِ، وقد يأتي الشَّيطانُ بسبعينَ بابًا من أبوابِ الخيرِ إمَّا
ليتوصلَ بها إلى بابٍ واحدٍ من الشرِّ وإمَّا ليفوتَ بها خيرًا أعظمَ من
تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضلَ.
وغالبًا ما تكون مصائده هذه للعبَّاد والقصَّاص والوعَّاظ الذين لم يتربوا
بدقائق العلم، وهذا لا يُتوصَّلُ إلى معرفته إلا بنورٍ من الله يقذفه في
قلب العبد؛ يكون سببه تجريد متابعةِ الرَّسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال
عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى
ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من
كان من ورثةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه وعلى نهجهه وطريقته،
وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم، والله تعالى يمن بفضله على
من يشاء من عباده.
فمثلا يأتي للعابد فيعظم له شأن العبادة ويصرفه عن تعلم العلم فيوقعه في
جهلٍ عميق، فيأتي من الأعمال ما يمحق بها عبادته ويكون بها الهلكة؛ كحال
العابد الذي أفتى قاتل التسعة والتسعين.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا, ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ
فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ:
لَا. فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ
كَذَا وَكَذَا. فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا,
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ,
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي, وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى
هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي, وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا. فَوُجِدَ
إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ».(1)
أو يأتي العالم فيشغله عن العبادةِ مزينا له فضل العلم، ويجعله دائم
الانشغال به حتى يصدَّه الطَّلب عن أصول العبادات، ولقد رأينا بعض الطلبة
ممن ينشغل بالعلم يبيت الليل في تحصيله، وربما يؤذن عليه الفجر وما صلى
الوتر فضلا عن قيام الليل.
أو يأتي الداعية أو الواعظ فيقول له: أما تنظر إلى الخلق وَهم موتى من
الجهل، هلكى من الغفلة، قد أشرفوا على النار، أما لك رحمة على عباد الله،
تنقذهم من المعاطب بنصحك وَوعْظِك، وَقد أنعم الله عليك بقلب بصير،
وَلسانٍ ذلق، وَلهجةٍ مقبولة، فكيف تكفر نعمة الله تَعَالَى، وَتتعرض
لسخطه، وَتسكت عَنْ إشاعة العلم، وَدعوة الخلق إلى الصِّراط المستقيم،
وَهو لا يزال يقرِّر ذلك في نفسه، وَيستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ
النّاس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم، وَيتصنع بتحسين اللفظ،
وَإظهار الخير، وَيقول له: إن لم تفعل ذلك سقط وَقع كلامك من قلوبهم، وَلم
يهتدوا إلى الحقِّ، وَلا يزال يقرر ذلك عنده، وَهو في أثنائه يؤكد فيه
شوائب الرِّياء، وَقبول الخلق، وَلذة الجاه، وَالتعزز بكثرة الأتباع
وَالعلم، وَالنظر إلى الخلق بعين الاحتقار، فَيُسْتَدْرَجُ المسكين
بالنُّصْحِ إلى الهلاك، فيتكلم وَهو يظن أن قصده الخير وَإنما قصْدُه
الجاه وَالقبول، فيهلك بسببه وَهو يظن أَنَّهُ عند الله بمكان، وَهو من
الذين قيل فيهم كما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«...وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ
الْفَاجِرِ».(2)
ولا يميز هذه الطُّرق إلا من شرح الله صدره، وبصره بطرقه وأعانه على اقتداء الصِّراط المستقيم.
صور معاصرة
ومن عجيب ما نراه الآن من وقوع بعض الأخيار في لجج الفتن وأعاصير الهوى، ومن ذلك:
الانشغال بالعلم عن العبادة وتزكية النفس.
الانشغال بالدعوة دون تحصيل العلم النافع.
الانشغال بعلم الفروع عن علم الأصول.
ضياع الوقت وصرفه فيما لا يفيد مع عدم تحديد أولويات إنفاقه.
المحاكاة والمشاكلة لما عليه العامة وإن خالف السنة للخروج من مأزق النقد.
الحديث عن النفس والتبجح بالمكانة في العلم والعمل حتى وإن خالف الواقع.
كثرة النقد للآخرين مع عدم قبول أي نقد من أحد.
عدم التوازن بين الواجبات مع التقصير في النوافل.
وحشة التفرد والأنس بالآخرين مما يؤدي إلى التنازل عن بعض الواجبات.
لقد تولد من جراء هذه الهمجية العلمية التي لا ضابط لها جيل لا إلى العلم
ساروا ولا عند الجهل وقفوا فقد كان العلم قديماً - وما زال - يدعو أهله
إلى التواضع والإخبات، والتخشُّع والسكينة، ثم خلف بعد هذا بعض خلف - لهم
فيه بعض سلف - ظفروا من العلم بألقابه، وحازوا من العمل بشكليته وإشاراته،
تميزو بهز الرؤوس وحسن الجلوس وقد علت الوجوه ابتسامة عريضة ولفتة غريبة.
حتى صار العلم والفهم عند هؤلاء سلماً يصعدون به أعالي الأبراج، ويمتطون
به من الشهرة السراج الوهاج، بسَطُوه لمن لا يريده وحرموا منه الفقير
والمحتاج، قصروه على طوائف من الخلق.. فخالفوا العهد والمنهاج.
ولقد كان ( أقوام ) هم عند من يعرف تأريخهم (أصفاراً على الشمال ) على
الوجهين ( الدنيا والآخرة )، فلما رفعهم الله - بفضله ومنّه وإنعامه -
بالهداية والعلم = قلبوا ظهر المجن لمن علموهم وقربوهم، وتنمروا لمن
أوصلوهم. {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
مِن فَضْلِهِ}[التوبة74]
• لقد كان من واجب النعمة شكرها لخالقها.
• والتذكير بسالف العهد، وكيف كان المرء، وكيف صار = لمن دواعي إنابة العبد إلى المنعم إليه، وانتباهه من غفلاته، وصحوته من سكراته!
ومن آفات الجحود عند هؤلاء؛ التنكر لمن أفاده وعلمه وأحسن إليه لأجل زلة
زلها أو غضبة غضبها، فيجحد كل ما مضى من إحسانه إليه ويقول كما تقول
الكافرات العشير: ما رأيت منك خيرا قط، ويطلق لسانه في ذمه والتشنيع عليه
ويقول الشاعر في مثل هذا:
فَيَا عَجَبًا لِمَنْ رَبَّيْتُ طِفْلًاأُلَقِّمـهُ بِأَطْـرَافِ البَنَـانِ
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُـلَّ يَـوْمٍفَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِـي
أُعَلِّمُهُ الْفُتُـوَّةَ كُـلَّ وَقْـتٍفَلَمَّا طَرَّ شَارِبُـهُ جَفَانِـي
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوَافِـيفَلَمَّا قَـالَ قَافِيـةً هَجَانِـي
قال الشافعي رحمه الله: الحر من راعى وداد لحظةً, وانتمى لمن أفاده لفظةً.
صُحْبَةُ يَوْمٍ نَسَبٌ قَرِيبٌ وَذِمَّةٌ يَعْرِفُهَا الْلَّبِيبُ
وكان محمد بن واسع يقول: لايبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من
صحبه ولو ساعة, وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري ويقول: قد كان لها معنا
صحبة.
وكان الأولى بالجاحد الكفور أن يتمثل ما قاله الضيف الكريم لمضيفه الذي
أحسن إليه، فقد كان لرجل شجرة عنب كثيرة الثمر, فكان غارسها إذا مر به
صديق له اقتطف عنقودا ودعاه فيأكله وينصرف شاكرا.
فلما كان اليوم العاشر قالت امرأة صاحب الشجرة لزوجها: ما هذا من أدب
الضيافة و لكن أرى إن دعوت أخاك, فأكل النصف, فمددت يدك معه مشاركًا,
إيناسًا له, وتبسطًا, وإكرامًا,
فلما كان الغد؛ وانتصف الضيف في أكله؛ مد الرجل يده و تناول حبة, فوجدها
حامضة لا تساغ, وتفلها, وقطب حاجبيه, وأبدى عجبه من صبر ضيفه على أكل
أمثالها, فقال الضيف: قد أكلت من يدك من قبل على مر الأيام حلوًا كثيرًا,
ولم أحب أن أريك نفسي كراهة لهذا, تشوب في نفسك عطاءك السالف.
ومن مظاهر الجحود: الرجوع عن التعديل و التزكية إلى التجريح و الذم لمحض
الهوى و شهوات الأنفس, قال الزاعفراني: حج بشر المريسي, فلما قدم قال:
رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا - يقصد الإمام الشافعي
رحمه الله - قال: فقدم علينا, فاجتمع إليه الناس, و خفوا عن بشر, فجئت إلى
بشر, فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدم, قال: إنه قد تغير عما كان
عليه, قال: فما كان مثل بشر إلا مثل اليهود في شأن عبدالله بن السلام.
رصاصُ مَن أحببته ذهبٌ وذهب مَن لم ترض عنه رصاصُ
و من مظاهر الجحود: الانكباب على مصنفات العالم والنهل من فيض علمه سرًا, مع إظهار الاستغناء عنه, ذم كتبه في الملأ.
و من مظاهره: تنكر منتسبي الدعوة للجيل السابق الذي عاصر مراحل التأسيس,
وعانى ما اكتنفها من جهد و آلام, وليتهم إذ جحدوا كفوا ألسنتهم عن الأذى,
إذًا لحمدوا أبلغ الحمد في زمن يصدق عليه قول القائل:
إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ: إِحْسَانٌ وَجَمَالُ
وقول الآخر:
فاستولى الشيطان وجنده على حين غِرَّةٍ منهم على القلب والعصب، وتمادى حتى
خالط القول والعمل، ثم ضرب أطنابه وبسط سلطانه، ونادى: أن لا رحيل لكم
فأبشروا بالخير العميم، والفوز العظيم على هذا المسكين!
ثم تمادى الأمر فغدا ذاك الحي من مرابع الشيطان الرجيم، تهيم فيها سارحته غدوا وعشياً، حتى صار ( فلانٌ ) المسكين مطية من مطاياه!!
ثم طمس منه البصر، وضلّت منه البصيرة، فغدا لا ينطق باسم العلم إلا ما
يهواه، ولا يعمل في ذلك رسماً من رسومه إلاَّ على مقتضاه، وهكذا في صورٍ
من الارتكاس في الضلالة، والتخبُط في العماية!
نعوذ بالله من ذلك كله، دقه وجله!
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ(176)}[سورة الأعراف]
ثم ما زال الأمر على هذه الحال الشنيعة المشؤومة، حتى انقضى ذاك الزمن؛
فصار يُقال - وقد قيل - قد كان ( فلانٌ ) في قديـم الزمان وسـالف العهد
والأوان كذا وكذا ....فعاقبهم الله بنقيض ما أرادوا فصاروا أثرا بعد عين.
قبول القلب ورفضه بقدر ما فيه من إيمان
((يجب أن نعلم أن القلب مثل هدف تنصب إليه السِّهام من الجوانب، أَوْ هو
مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد
صورة وَلا تخلو عنها، أَوْ مثال حوض تَنْصب فيه مياه مختلفة من أنهار
مفتوحة إليه، وَإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال. أما
من الظَّاهر؛ فالحواس الخمس، وَأما من الباطن؛ فالخيال وَالشَّهوة وَالغضب
وَالأخلاق المركبة من مزاج الإنسان، فَإِنَّهُ إذا أدرك بالحواس شيئًا حصل
منه أثر في القلب، وَكذلك إذا هاجت الشَّهوة مثلًا بسبب كثرة الأكل وَبسبب
قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر، وَإن كف عَنْ الإحساس فالخيالات
الحاصلة في النفس تبقى، وَينتقل الخيال من شيءٍ إلى شيءٍ، وَبحسب انتقال
الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر، وَالمقصود أن القلب في التغير
وَالتأثر دائمًا من هذه الأسباب، وَأخص الآثار الحاصلة في القلب هي
الخواطر، وَأعني بالخواطر: ما يحصل فيه من الأفكار وَالأذكار، وَأعني به
إدراكاته علومًا إما على سبيل التجدد، وَإما على سبيل التذكر، فإنها تسمى
خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلًا عنها، وَالخواطر هي
المحركات للإرادات فَإِنَّ النية وَالعزم وَالإرادة إنما تكون بعد خطور
المنوي بالبال لا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة،
وَالرغبة تحرك العزم، وَالعزم يحرك النية، وَالنية تحرك الأعضاء،
وَالخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشرِّ، أعني: إلى ما يضر
في العاقبة، وَإلى ما يدعو إلى الخير، أعني: إلى ما ينفع في الدار الآخرة،
فهما خاطران مختلفَان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى
إلهامًا، وَالخاطر المذموم أعني: الداعي إلى الشر يسمى وسواسًا، ثم إنك
تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدثٍ، وَمهما
اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب، هذا ما عرف من سنة الله
تَعَالَى في ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور
النار وَأظلم سقفه وَاسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة.
وَكذلك لأنوار القلب وَظُلْمته سببان مختلفَان، فسبب الخاطر الدّاعي إلى
الخير يسمى ملكًا، وَسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا، وَاللطف
الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا، وَالذي به يتهيأ
لقبول وَسواس الشَّيطان يسمى إغواءً وَخذلانًا، فَإِنَّ المعاني المختلفة
تفتقر إلى أسامي مختلفة، وَالملك عبارة عَنْ خلق خلقه الله تَعَالَى شأنه
إفاضة الخير، وَإفادة العلم، وَكشف الحق، وَالوعد بالخير، وَالأمر
بالمعروف، وَقد خلقه وَسخره لذلك، وَالشَّيطان عبارة عَنْ خلق شأنه ضد ذلك
وَهو الوعد بالشر، وَالأمر بالفحشاء، وَالتخويف عند الهم بالخير بالفقر،
فالوسوسة في مقابلة الإلهام، وَالشَّيطان في مقابلة الملك، وَالتوفيق في
مقابلة الخذلان، وَإليه الإشارة بقوله تَعَالَى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[سورة الذاريات:49].
فَإِنَّ الموجودات كُلّها متقابلة مزدوجة إلا الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ
فرد لا مقابل له، بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها، فالقلب متجاذب
بين الشَّيطان وَالملك)).
قال الحسن: ((إنما هما همان يجولان في القلب، همٌ من الله تَعَالَى، وَهمٌ
من العدوِ، فرحم اللهُ عبدًا وَقف عند همه، فما كان من الله تَعَالَى
أمضاه، وَمَا كان مِنْ عَدوِه جاهده)).، وَيتجاذب القلب بين هذين
المسَّلطين.
عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:«إِنَّ
قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ, ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ
مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».(3)
وَالقلب بأصل الفِطْرة صالح لقبول آثار الملك وَلقبول آثار الشَّيطان
صلاحًا متساويًا ليس يترجح أحدهما على الآخر، وَإنما يترجح أحدُ الجانبين
باتباع الهوى وَالإكباب على الشّهوات, أَوْ الإعراض عنها وَمخالفتها،
فَإِن اتبع الإنسان مقتضى الغضب وَالشَّهوة ظهر تسلط الشَّيطانِ بواسطة
الهوى وَصارَ القلبُ عش الشَّيطان وَمعدنه، لأن الهوى هو مرعى الشَّيطان
وَمرتعه، وَإن جاهد الشهوات وَلم يسلطها على نفسه، وَتشبه بأخلاق الملائكة
عليهم السلام، صار قلبه مستقر الملائكة وَمهبطهم، وَلما كان لا يخلو قلب
عَنْ شهوة وَغضب وَحرص وَطمع وَطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية
المتشعبة عَنْ الهوى، لا جرم لم يخل قلب عَنْ أن يكون للشيطان فيه جولان
بالوسوسة، كما صح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ، قَالُوا:
وَإِيَّاكَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ
أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ, فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ».(4)
وَإنما كان هذا لأن الشَّيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشَّهوة، فمن أعانه
الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي؛ وَإلى الحد الذي ينبغي،
فشهوته لا تدعو إلى الشرِّ، فالشَّيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير،
وَمهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وَجد الشَّيطان مجالًا
فوسوس، وَمهما انصرف القلب إلى ذكر الله تَعَالَى ارتحل الشَّيطان وَضاقَ
مجاله، وَأقبل الملك وَألهم، وَالتطارد بين جندي الملائكة وَالشياطين في
معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن وَيستمكن، وَيكون
اجتياز الثاني اختلاسًا, وَأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين
وَتملكتها، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وَإطراح الآخرة،
وَمبدأ استيلائها اتباع الشهوات وَالهوى، وَلا يمكن فتحها بعد ذلك إلا
بتخلية القلب عَنْ قوت الشَّيطان؛ وَهو الهوى وَالشهوات، وَعمارته بذكر
الله تَعَالَى الذي هو مطرح أثر الملائكة.(5)
قال ابن الجوزي رحمه الله: ((أعظم المعاقبة ألا يحس المعاقب بالعقوبة،
وَأشد من ذلك أن يقع السّرور بما هو عقوبة كالفرح بالمال الحرام، وَالتمكن
من الذنوب، وَمَنْ هذه حاله لا يفوز بطاعة، وَإني تدبرت أحوال أكثر
العلماء وَالمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها؛ وَمعظمها من قبل
طلبهم للرياسة.
فالعالم منهم يغضب إن رد عليه خطؤه، وَالواعظ متصنع بوعظه، وَالمتزهد
منافق أَوْ مراء، فأول عقوباتهم إعراضهم عَنْ الحق شغلا بالخلق، وَمن خفي
عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة وَلذة التعبد، إلا رجال مؤمنون وَنساء مؤمنات
يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى؛ وَسرائرهم كعلانيتهم بل
أحلى، وَهممهم عند الثريا بل أعلى، إن عرفوا تنكروا، وَإن رئيت لهم كرامة
أنكروا، فالنّاس في غفلاتهم وَهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض وَتفرح
بهم أملاك السّماء، نسأل الله عز وَجل التوفيق لاتباعهم وَأن يجعلنا من
أتباعهم)).(6)
ومن توفيق الله للعبد أن يطلب صديقًا صدوقًا بصيرَا متدينًا فينصبه رقيبًا
على نفسه؛ ليلاحظ أحواله وَأفعاله، فما كره من أخلاقه وَأفعاله وَعيوبه
الباطنة وَالظاهرة ينبهه عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس وَالأكابر من أئمة
الدين، فكل من كان أوفر عقلا وَأعلى منصبًا كان أقل إعجابًا وَأعظم
اتهامًا لنفسه إلا أن هذا أيْضًا قد عز، فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة
فيخبر بالعيب أَوْ يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب فلا تخلو في
أصدقائك عَنْ حسود، أَوْ صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيبا، أَوْ عَنْ مداهن
يخفي عنك بعض عيوبك.
فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم، وَقد آل الأمر في
أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا وَيعرفنا عيوبنا، وَيكاد هذا
أن يكون مفصحًا عَنْ ضعف الإيمان، فَإِنَّ الأخلاق السيئة حيات وَعقارب
لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربا لتقلدنا منه منة وَفرحنا
به؛ وَاشتغلنا بإزالة العقرب وَإبعادها وَقتلها، وَإنما نكايتها على البدن
وَيدوم ألمها يوما فما دونه، وَنكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى
أن تدوم بعد الموت أبدا وَآلافا من السنين، ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا
عليها وَلا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له:
وَأنت أيْضًا تصنع كيت وَكيت. وَتشغلنا العداوة معه عَنْ الانتفاع بنصحه،
وَيشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب، وَأصل كل
ذلك ضعف الإيمان، فنسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يلهمنا رشدنا وَيبصرنا
بعيوبنا، وَيشغلنا بمداواتها وَيوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا
بمنه وَفضله.
أهل الفضل يعرفون عيوبهم من ألسنة أعدائه
وذلك بأن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فَإِنَّ عين السخط تبدي
المساويا، وَلعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه
بصديق مداهن يثنى عليه وَيمدحه وَيخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على
تكذيب العدو وَحمل ما يقوله على الحسد، وَلكن البصير لا يخلو عَنْ
الانتفاع بقول أعدائه فَإِنَّ مساويه لابد وَأن تنتشر على ألسنتهم وهذا
الطريق قل من يستبصر به.
قَالَ ابن القيم رحمه الله: ((وَالتفتيش عما يشوب الأعمال من حظوظ النفس؛
وَتمييز حق الرب منها من حظ النفس, وَلعل أكثرها أَوْ كلها أن تكون حظا
لنفسك وَأنت لا تشعر! فلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كم في النفوس من علل
وَأغراض وَحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وَأن تصل إليه, وَإن العبد
ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبته وَهو غير خالص لله, وَيعمل العمل
وَالعيون قد استدارت عليه نطاقا وَهو خالص لوجه الله, وَلا يميز هذا إلا
أهل البصائر وَأطباء القلوب العالمون بأدوائها وَعِلَلِها, فبين العمل
وَبين القلب مسافة, وَفى تلك المسافة قُطَّاع تمنع وصول العمل إلى القلب,
فيكون الرجل كثير العمل؛ وَما وَصل منه إلى قلبه محبة وَلا خوف وَلا رجاء؛
وَلا زهد في الدنيا وَلا رغبة في الآخرة؛ وَلا نور يفرق به بين أولياء
الله وَأعدائه, وَبين الحق وَالباطل, وَلا قوة في أمره، فلو وَصل أثر
الأعمال إلى قلبه لاستنار وَأشرق, وَرأى الحق وَالباطل, وَميَّز بين
أولياء الله وَأعدائه, وَأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وَبين الرب مسافة وَعليها قطاع تمنع وَصول العمل إليه, من
كبر وَإعجاب وَإدلال, وَرؤية العمل وَنسيان المنة, وَعللٌ خفية لو استقصى
في طلبها لرأى العجب)). أهـ(7)
قَالَ عمر بن عبد العزيز: ((يا معشر المستترين! اعلموا أن عِنْد الله
مَسْأَلَةً فَاضِحَةً, قَالَ اللهُ تعالى: {عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}[سورة الحِجر:93].(
قَالَ الربيع بن خُثَيْم لولده المنذر: ((يا منذر! لا يغرَّنَّك كثرة ثناء النّاس من نفسك؛ فإِنَّه خالصٌ إليك عملك)).(9)
فقد يظهر العبد أجلّ الطاعات ويأتي بأعظم العبادات؛ ولكن للنفس منها نصيب
من مدح وثناء ومكانة عند النّاس، فلا يكون للعبد من نفسه إلا التعب
والنصب؛ ثم الجزاء في الآخرة على نقيض ما أراد.
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ(10): أَيُّهَا الشَّيْخُ
حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النّاس يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ
فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ, فَقَدْ
قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي
النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ, فَأُتِيَ
بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ, وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ,
وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ, فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ
أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ
كلهِ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا
عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ, فَقَدْ
قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي
النَّارِ».(11)
فالطريق شاق، ويحتاج إلى صبر وطول نفس، وعلى قدر التنبه واليقظة يدرك
العبد أخطاءه، وعلى قدر التمييز يعرف عيوبه، والتوفيق والسداد بيد الله ـ
نسأل الله صلاح قلوبنا والهداية والتوفيق والسداد.
(1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(3470)، مُسْلِمٌ(2766).
(2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(3062)، مُسْلِمٌ(111).
(3) رَوَاهُ مُسْلِمٌ(2654).
(4) رَوَاهُ مُسْلِمٌ(2804).
(5) «إحياء علوم الدين»(3/27).
(6)«صيد الخاطر» (14).
(7)«مدارج السالكين»(1/439).
(«حلية الأولياء»(5/288).
(9)«حلية الأولياء»(2/112).
(10) ناتل بن قيس بن زيد الشامي الفلسطيني أحد الأمراء لمعاوية وولده, أبوه قيس صحابي.
(11) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1905).
وعظيمِ مجاهدتهم يعلمُ أن هذا غيظٌ وحسرةٌ للشيطانِ، ولذلك نرى أن الجهدَ
الأكبرَ الذي يبذله الشَّيطانُ للغوايةِ والوقوعِ في المهلكةِ يوجه إلى
العبَّادِ والأخيارِ، ويبذلُ معهم الحيلَ والأساليبَ التي توقعُ بهم في
لججِ الفتنِ.
الْتَّمْييزُ بَيْنَ طُرُقِ الشَّيْطَانِ وَحِيَلِهِ
فمن الواجباتِ المسلماتِ التي يجب على العبدِ معرفتُها التمييزُ بين طرقِ
الشَّيطانِ وحيلِهِ وإلى ما يترددُ فيه هل هو من لمَّةِ الملكِ, أَوْ من
لمةِ الشَّيطانِ، فَإِنَّ من مكايدِ الشَّيطانِ أن يعرضَ الشرَّ في معرضِ
الخيرِ، وَالتمييزُ في ذلك غامضٌ، وَأكثرُ العبادِ به يهلكونَ، فَإِنَّ
الشَّيطانَ لا يقدرُ على دعائِهم إلى الشرِّ الصَّريحِ فيصورُ الشرَّ
بصورةِ الخيرِ، وقد يأتي الشَّيطانُ بسبعينَ بابًا من أبوابِ الخيرِ إمَّا
ليتوصلَ بها إلى بابٍ واحدٍ من الشرِّ وإمَّا ليفوتَ بها خيرًا أعظمَ من
تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضلَ.
وغالبًا ما تكون مصائده هذه للعبَّاد والقصَّاص والوعَّاظ الذين لم يتربوا
بدقائق العلم، وهذا لا يُتوصَّلُ إلى معرفته إلا بنورٍ من الله يقذفه في
قلب العبد؛ يكون سببه تجريد متابعةِ الرَّسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال
عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى
ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من
كان من ورثةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه وعلى نهجهه وطريقته،
وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم، والله تعالى يمن بفضله على
من يشاء من عباده.
فمثلا يأتي للعابد فيعظم له شأن العبادة ويصرفه عن تعلم العلم فيوقعه في
جهلٍ عميق، فيأتي من الأعمال ما يمحق بها عبادته ويكون بها الهلكة؛ كحال
العابد الذي أفتى قاتل التسعة والتسعين.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا, ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ
فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ:
لَا. فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ
كَذَا وَكَذَا. فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا,
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ,
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي, وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى
هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي, وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا. فَوُجِدَ
إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ».(1)
أو يأتي العالم فيشغله عن العبادةِ مزينا له فضل العلم، ويجعله دائم
الانشغال به حتى يصدَّه الطَّلب عن أصول العبادات، ولقد رأينا بعض الطلبة
ممن ينشغل بالعلم يبيت الليل في تحصيله، وربما يؤذن عليه الفجر وما صلى
الوتر فضلا عن قيام الليل.
أو يأتي الداعية أو الواعظ فيقول له: أما تنظر إلى الخلق وَهم موتى من
الجهل، هلكى من الغفلة، قد أشرفوا على النار، أما لك رحمة على عباد الله،
تنقذهم من المعاطب بنصحك وَوعْظِك، وَقد أنعم الله عليك بقلب بصير،
وَلسانٍ ذلق، وَلهجةٍ مقبولة، فكيف تكفر نعمة الله تَعَالَى، وَتتعرض
لسخطه، وَتسكت عَنْ إشاعة العلم، وَدعوة الخلق إلى الصِّراط المستقيم،
وَهو لا يزال يقرِّر ذلك في نفسه، وَيستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ
النّاس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم، وَيتصنع بتحسين اللفظ،
وَإظهار الخير، وَيقول له: إن لم تفعل ذلك سقط وَقع كلامك من قلوبهم، وَلم
يهتدوا إلى الحقِّ، وَلا يزال يقرر ذلك عنده، وَهو في أثنائه يؤكد فيه
شوائب الرِّياء، وَقبول الخلق، وَلذة الجاه، وَالتعزز بكثرة الأتباع
وَالعلم، وَالنظر إلى الخلق بعين الاحتقار، فَيُسْتَدْرَجُ المسكين
بالنُّصْحِ إلى الهلاك، فيتكلم وَهو يظن أن قصده الخير وَإنما قصْدُه
الجاه وَالقبول، فيهلك بسببه وَهو يظن أَنَّهُ عند الله بمكان، وَهو من
الذين قيل فيهم كما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«...وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ
الْفَاجِرِ».(2)
ولا يميز هذه الطُّرق إلا من شرح الله صدره، وبصره بطرقه وأعانه على اقتداء الصِّراط المستقيم.
صور معاصرة
ومن عجيب ما نراه الآن من وقوع بعض الأخيار في لجج الفتن وأعاصير الهوى، ومن ذلك:
الانشغال بالعلم عن العبادة وتزكية النفس.
الانشغال بالدعوة دون تحصيل العلم النافع.
الانشغال بعلم الفروع عن علم الأصول.
ضياع الوقت وصرفه فيما لا يفيد مع عدم تحديد أولويات إنفاقه.
المحاكاة والمشاكلة لما عليه العامة وإن خالف السنة للخروج من مأزق النقد.
الحديث عن النفس والتبجح بالمكانة في العلم والعمل حتى وإن خالف الواقع.
كثرة النقد للآخرين مع عدم قبول أي نقد من أحد.
عدم التوازن بين الواجبات مع التقصير في النوافل.
وحشة التفرد والأنس بالآخرين مما يؤدي إلى التنازل عن بعض الواجبات.
لقد تولد من جراء هذه الهمجية العلمية التي لا ضابط لها جيل لا إلى العلم
ساروا ولا عند الجهل وقفوا فقد كان العلم قديماً - وما زال - يدعو أهله
إلى التواضع والإخبات، والتخشُّع والسكينة، ثم خلف بعد هذا بعض خلف - لهم
فيه بعض سلف - ظفروا من العلم بألقابه، وحازوا من العمل بشكليته وإشاراته،
تميزو بهز الرؤوس وحسن الجلوس وقد علت الوجوه ابتسامة عريضة ولفتة غريبة.
حتى صار العلم والفهم عند هؤلاء سلماً يصعدون به أعالي الأبراج، ويمتطون
به من الشهرة السراج الوهاج، بسَطُوه لمن لا يريده وحرموا منه الفقير
والمحتاج، قصروه على طوائف من الخلق.. فخالفوا العهد والمنهاج.
ولقد كان ( أقوام ) هم عند من يعرف تأريخهم (أصفاراً على الشمال ) على
الوجهين ( الدنيا والآخرة )، فلما رفعهم الله - بفضله ومنّه وإنعامه -
بالهداية والعلم = قلبوا ظهر المجن لمن علموهم وقربوهم، وتنمروا لمن
أوصلوهم. {وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
مِن فَضْلِهِ}[التوبة74]
• لقد كان من واجب النعمة شكرها لخالقها.
• والتذكير بسالف العهد، وكيف كان المرء، وكيف صار = لمن دواعي إنابة العبد إلى المنعم إليه، وانتباهه من غفلاته، وصحوته من سكراته!
ومن آفات الجحود عند هؤلاء؛ التنكر لمن أفاده وعلمه وأحسن إليه لأجل زلة
زلها أو غضبة غضبها، فيجحد كل ما مضى من إحسانه إليه ويقول كما تقول
الكافرات العشير: ما رأيت منك خيرا قط، ويطلق لسانه في ذمه والتشنيع عليه
ويقول الشاعر في مثل هذا:
فَيَا عَجَبًا لِمَنْ رَبَّيْتُ طِفْلًاأُلَقِّمـهُ بِأَطْـرَافِ البَنَـانِ
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُـلَّ يَـوْمٍفَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِـي
أُعَلِّمُهُ الْفُتُـوَّةَ كُـلَّ وَقْـتٍفَلَمَّا طَرَّ شَارِبُـهُ جَفَانِـي
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوَافِـيفَلَمَّا قَـالَ قَافِيـةً هَجَانِـي
قال الشافعي رحمه الله: الحر من راعى وداد لحظةً, وانتمى لمن أفاده لفظةً.
صُحْبَةُ يَوْمٍ نَسَبٌ قَرِيبٌ وَذِمَّةٌ يَعْرِفُهَا الْلَّبِيبُ
وكان محمد بن واسع يقول: لايبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من
صحبه ولو ساعة, وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري ويقول: قد كان لها معنا
صحبة.
وكان الأولى بالجاحد الكفور أن يتمثل ما قاله الضيف الكريم لمضيفه الذي
أحسن إليه، فقد كان لرجل شجرة عنب كثيرة الثمر, فكان غارسها إذا مر به
صديق له اقتطف عنقودا ودعاه فيأكله وينصرف شاكرا.
فلما كان اليوم العاشر قالت امرأة صاحب الشجرة لزوجها: ما هذا من أدب
الضيافة و لكن أرى إن دعوت أخاك, فأكل النصف, فمددت يدك معه مشاركًا,
إيناسًا له, وتبسطًا, وإكرامًا,
فلما كان الغد؛ وانتصف الضيف في أكله؛ مد الرجل يده و تناول حبة, فوجدها
حامضة لا تساغ, وتفلها, وقطب حاجبيه, وأبدى عجبه من صبر ضيفه على أكل
أمثالها, فقال الضيف: قد أكلت من يدك من قبل على مر الأيام حلوًا كثيرًا,
ولم أحب أن أريك نفسي كراهة لهذا, تشوب في نفسك عطاءك السالف.
ومن مظاهر الجحود: الرجوع عن التعديل و التزكية إلى التجريح و الذم لمحض
الهوى و شهوات الأنفس, قال الزاعفراني: حج بشر المريسي, فلما قدم قال:
رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا - يقصد الإمام الشافعي
رحمه الله - قال: فقدم علينا, فاجتمع إليه الناس, و خفوا عن بشر, فجئت إلى
بشر, فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدم, قال: إنه قد تغير عما كان
عليه, قال: فما كان مثل بشر إلا مثل اليهود في شأن عبدالله بن السلام.
رصاصُ مَن أحببته ذهبٌ وذهب مَن لم ترض عنه رصاصُ
و من مظاهر الجحود: الانكباب على مصنفات العالم والنهل من فيض علمه سرًا, مع إظهار الاستغناء عنه, ذم كتبه في الملأ.
و من مظاهره: تنكر منتسبي الدعوة للجيل السابق الذي عاصر مراحل التأسيس,
وعانى ما اكتنفها من جهد و آلام, وليتهم إذ جحدوا كفوا ألسنتهم عن الأذى,
إذًا لحمدوا أبلغ الحمد في زمن يصدق عليه قول القائل:
إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ: إِحْسَانٌ وَجَمَالُ
وقول الآخر:
فاستولى الشيطان وجنده على حين غِرَّةٍ منهم على القلب والعصب، وتمادى حتى
خالط القول والعمل، ثم ضرب أطنابه وبسط سلطانه، ونادى: أن لا رحيل لكم
فأبشروا بالخير العميم، والفوز العظيم على هذا المسكين!
ثم تمادى الأمر فغدا ذاك الحي من مرابع الشيطان الرجيم، تهيم فيها سارحته غدوا وعشياً، حتى صار ( فلانٌ ) المسكين مطية من مطاياه!!
ثم طمس منه البصر، وضلّت منه البصيرة، فغدا لا ينطق باسم العلم إلا ما
يهواه، ولا يعمل في ذلك رسماً من رسومه إلاَّ على مقتضاه، وهكذا في صورٍ
من الارتكاس في الضلالة، والتخبُط في العماية!
نعوذ بالله من ذلك كله، دقه وجله!
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ(176)}[سورة الأعراف]
ثم ما زال الأمر على هذه الحال الشنيعة المشؤومة، حتى انقضى ذاك الزمن؛
فصار يُقال - وقد قيل - قد كان ( فلانٌ ) في قديـم الزمان وسـالف العهد
والأوان كذا وكذا ....فعاقبهم الله بنقيض ما أرادوا فصاروا أثرا بعد عين.
قبول القلب ورفضه بقدر ما فيه من إيمان
((يجب أن نعلم أن القلب مثل هدف تنصب إليه السِّهام من الجوانب، أَوْ هو
مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد
صورة وَلا تخلو عنها، أَوْ مثال حوض تَنْصب فيه مياه مختلفة من أنهار
مفتوحة إليه، وَإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال. أما
من الظَّاهر؛ فالحواس الخمس، وَأما من الباطن؛ فالخيال وَالشَّهوة وَالغضب
وَالأخلاق المركبة من مزاج الإنسان، فَإِنَّهُ إذا أدرك بالحواس شيئًا حصل
منه أثر في القلب، وَكذلك إذا هاجت الشَّهوة مثلًا بسبب كثرة الأكل وَبسبب
قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر، وَإن كف عَنْ الإحساس فالخيالات
الحاصلة في النفس تبقى، وَينتقل الخيال من شيءٍ إلى شيءٍ، وَبحسب انتقال
الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر، وَالمقصود أن القلب في التغير
وَالتأثر دائمًا من هذه الأسباب، وَأخص الآثار الحاصلة في القلب هي
الخواطر، وَأعني بالخواطر: ما يحصل فيه من الأفكار وَالأذكار، وَأعني به
إدراكاته علومًا إما على سبيل التجدد، وَإما على سبيل التذكر، فإنها تسمى
خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلًا عنها، وَالخواطر هي
المحركات للإرادات فَإِنَّ النية وَالعزم وَالإرادة إنما تكون بعد خطور
المنوي بالبال لا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة،
وَالرغبة تحرك العزم، وَالعزم يحرك النية، وَالنية تحرك الأعضاء،
وَالخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشرِّ، أعني: إلى ما يضر
في العاقبة، وَإلى ما يدعو إلى الخير، أعني: إلى ما ينفع في الدار الآخرة،
فهما خاطران مختلفَان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى
إلهامًا، وَالخاطر المذموم أعني: الداعي إلى الشر يسمى وسواسًا، ثم إنك
تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدثٍ، وَمهما
اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب، هذا ما عرف من سنة الله
تَعَالَى في ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور
النار وَأظلم سقفه وَاسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة.
وَكذلك لأنوار القلب وَظُلْمته سببان مختلفَان، فسبب الخاطر الدّاعي إلى
الخير يسمى ملكًا، وَسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانًا، وَاللطف
الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا، وَالذي به يتهيأ
لقبول وَسواس الشَّيطان يسمى إغواءً وَخذلانًا، فَإِنَّ المعاني المختلفة
تفتقر إلى أسامي مختلفة، وَالملك عبارة عَنْ خلق خلقه الله تَعَالَى شأنه
إفاضة الخير، وَإفادة العلم، وَكشف الحق، وَالوعد بالخير، وَالأمر
بالمعروف، وَقد خلقه وَسخره لذلك، وَالشَّيطان عبارة عَنْ خلق شأنه ضد ذلك
وَهو الوعد بالشر، وَالأمر بالفحشاء، وَالتخويف عند الهم بالخير بالفقر،
فالوسوسة في مقابلة الإلهام، وَالشَّيطان في مقابلة الملك، وَالتوفيق في
مقابلة الخذلان، وَإليه الإشارة بقوله تَعَالَى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[سورة الذاريات:49].
فَإِنَّ الموجودات كُلّها متقابلة مزدوجة إلا الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ
فرد لا مقابل له، بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها، فالقلب متجاذب
بين الشَّيطان وَالملك)).
قال الحسن: ((إنما هما همان يجولان في القلب، همٌ من الله تَعَالَى، وَهمٌ
من العدوِ، فرحم اللهُ عبدًا وَقف عند همه، فما كان من الله تَعَالَى
أمضاه، وَمَا كان مِنْ عَدوِه جاهده)).، وَيتجاذب القلب بين هذين
المسَّلطين.
عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:«إِنَّ
قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ, ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ
مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».(3)
وَالقلب بأصل الفِطْرة صالح لقبول آثار الملك وَلقبول آثار الشَّيطان
صلاحًا متساويًا ليس يترجح أحدهما على الآخر، وَإنما يترجح أحدُ الجانبين
باتباع الهوى وَالإكباب على الشّهوات, أَوْ الإعراض عنها وَمخالفتها،
فَإِن اتبع الإنسان مقتضى الغضب وَالشَّهوة ظهر تسلط الشَّيطانِ بواسطة
الهوى وَصارَ القلبُ عش الشَّيطان وَمعدنه، لأن الهوى هو مرعى الشَّيطان
وَمرتعه، وَإن جاهد الشهوات وَلم يسلطها على نفسه، وَتشبه بأخلاق الملائكة
عليهم السلام، صار قلبه مستقر الملائكة وَمهبطهم، وَلما كان لا يخلو قلب
عَنْ شهوة وَغضب وَحرص وَطمع وَطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية
المتشعبة عَنْ الهوى، لا جرم لم يخل قلب عَنْ أن يكون للشيطان فيه جولان
بالوسوسة، كما صح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ، قَالُوا:
وَإِيَّاكَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ
أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ, فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ».(4)
وَإنما كان هذا لأن الشَّيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشَّهوة، فمن أعانه
الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي؛ وَإلى الحد الذي ينبغي،
فشهوته لا تدعو إلى الشرِّ، فالشَّيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير،
وَمهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وَجد الشَّيطان مجالًا
فوسوس، وَمهما انصرف القلب إلى ذكر الله تَعَالَى ارتحل الشَّيطان وَضاقَ
مجاله، وَأقبل الملك وَألهم، وَالتطارد بين جندي الملائكة وَالشياطين في
معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن وَيستمكن، وَيكون
اجتياز الثاني اختلاسًا, وَأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين
وَتملكتها، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وَإطراح الآخرة،
وَمبدأ استيلائها اتباع الشهوات وَالهوى، وَلا يمكن فتحها بعد ذلك إلا
بتخلية القلب عَنْ قوت الشَّيطان؛ وَهو الهوى وَالشهوات، وَعمارته بذكر
الله تَعَالَى الذي هو مطرح أثر الملائكة.(5)
قال ابن الجوزي رحمه الله: ((أعظم المعاقبة ألا يحس المعاقب بالعقوبة،
وَأشد من ذلك أن يقع السّرور بما هو عقوبة كالفرح بالمال الحرام، وَالتمكن
من الذنوب، وَمَنْ هذه حاله لا يفوز بطاعة، وَإني تدبرت أحوال أكثر
العلماء وَالمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها؛ وَمعظمها من قبل
طلبهم للرياسة.
فالعالم منهم يغضب إن رد عليه خطؤه، وَالواعظ متصنع بوعظه، وَالمتزهد
منافق أَوْ مراء، فأول عقوباتهم إعراضهم عَنْ الحق شغلا بالخلق، وَمن خفي
عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة وَلذة التعبد، إلا رجال مؤمنون وَنساء مؤمنات
يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى؛ وَسرائرهم كعلانيتهم بل
أحلى، وَهممهم عند الثريا بل أعلى، إن عرفوا تنكروا، وَإن رئيت لهم كرامة
أنكروا، فالنّاس في غفلاتهم وَهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض وَتفرح
بهم أملاك السّماء، نسأل الله عز وَجل التوفيق لاتباعهم وَأن يجعلنا من
أتباعهم)).(6)
ومن توفيق الله للعبد أن يطلب صديقًا صدوقًا بصيرَا متدينًا فينصبه رقيبًا
على نفسه؛ ليلاحظ أحواله وَأفعاله، فما كره من أخلاقه وَأفعاله وَعيوبه
الباطنة وَالظاهرة ينبهه عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس وَالأكابر من أئمة
الدين، فكل من كان أوفر عقلا وَأعلى منصبًا كان أقل إعجابًا وَأعظم
اتهامًا لنفسه إلا أن هذا أيْضًا قد عز، فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة
فيخبر بالعيب أَوْ يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب فلا تخلو في
أصدقائك عَنْ حسود، أَوْ صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيبا، أَوْ عَنْ مداهن
يخفي عنك بعض عيوبك.
فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم، وَقد آل الأمر في
أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا وَيعرفنا عيوبنا، وَيكاد هذا
أن يكون مفصحًا عَنْ ضعف الإيمان، فَإِنَّ الأخلاق السيئة حيات وَعقارب
لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربا لتقلدنا منه منة وَفرحنا
به؛ وَاشتغلنا بإزالة العقرب وَإبعادها وَقتلها، وَإنما نكايتها على البدن
وَيدوم ألمها يوما فما دونه، وَنكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى
أن تدوم بعد الموت أبدا وَآلافا من السنين، ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا
عليها وَلا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له:
وَأنت أيْضًا تصنع كيت وَكيت. وَتشغلنا العداوة معه عَنْ الانتفاع بنصحه،
وَيشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب، وَأصل كل
ذلك ضعف الإيمان، فنسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يلهمنا رشدنا وَيبصرنا
بعيوبنا، وَيشغلنا بمداواتها وَيوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا
بمنه وَفضله.
أهل الفضل يعرفون عيوبهم من ألسنة أعدائه
وذلك بأن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فَإِنَّ عين السخط تبدي
المساويا، وَلعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه
بصديق مداهن يثنى عليه وَيمدحه وَيخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على
تكذيب العدو وَحمل ما يقوله على الحسد، وَلكن البصير لا يخلو عَنْ
الانتفاع بقول أعدائه فَإِنَّ مساويه لابد وَأن تنتشر على ألسنتهم وهذا
الطريق قل من يستبصر به.
قَالَ ابن القيم رحمه الله: ((وَالتفتيش عما يشوب الأعمال من حظوظ النفس؛
وَتمييز حق الرب منها من حظ النفس, وَلعل أكثرها أَوْ كلها أن تكون حظا
لنفسك وَأنت لا تشعر! فلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كم في النفوس من علل
وَأغراض وَحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وَأن تصل إليه, وَإن العبد
ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبته وَهو غير خالص لله, وَيعمل العمل
وَالعيون قد استدارت عليه نطاقا وَهو خالص لوجه الله, وَلا يميز هذا إلا
أهل البصائر وَأطباء القلوب العالمون بأدوائها وَعِلَلِها, فبين العمل
وَبين القلب مسافة, وَفى تلك المسافة قُطَّاع تمنع وصول العمل إلى القلب,
فيكون الرجل كثير العمل؛ وَما وَصل منه إلى قلبه محبة وَلا خوف وَلا رجاء؛
وَلا زهد في الدنيا وَلا رغبة في الآخرة؛ وَلا نور يفرق به بين أولياء
الله وَأعدائه, وَبين الحق وَالباطل, وَلا قوة في أمره، فلو وَصل أثر
الأعمال إلى قلبه لاستنار وَأشرق, وَرأى الحق وَالباطل, وَميَّز بين
أولياء الله وَأعدائه, وَأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وَبين الرب مسافة وَعليها قطاع تمنع وَصول العمل إليه, من
كبر وَإعجاب وَإدلال, وَرؤية العمل وَنسيان المنة, وَعللٌ خفية لو استقصى
في طلبها لرأى العجب)). أهـ(7)
قَالَ عمر بن عبد العزيز: ((يا معشر المستترين! اعلموا أن عِنْد الله
مَسْأَلَةً فَاضِحَةً, قَالَ اللهُ تعالى: {عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}[سورة الحِجر:93].(
قَالَ الربيع بن خُثَيْم لولده المنذر: ((يا منذر! لا يغرَّنَّك كثرة ثناء النّاس من نفسك؛ فإِنَّه خالصٌ إليك عملك)).(9)
فقد يظهر العبد أجلّ الطاعات ويأتي بأعظم العبادات؛ ولكن للنفس منها نصيب
من مدح وثناء ومكانة عند النّاس، فلا يكون للعبد من نفسه إلا التعب
والنصب؛ ثم الجزاء في الآخرة على نقيض ما أراد.
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ(10): أَيُّهَا الشَّيْخُ
حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النّاس يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ
فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ, فَقَدْ
قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي
النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ, فَأُتِيَ
بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ, وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ,
وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ, فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ
أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ
كلهِ, فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا, قَالَ: فَمَا
عَمِلْتَ فِيهَا؟.
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.
قَالَ: كَذَبْتَ, وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ, فَقَدْ
قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي
النَّارِ».(11)
فالطريق شاق، ويحتاج إلى صبر وطول نفس، وعلى قدر التنبه واليقظة يدرك
العبد أخطاءه، وعلى قدر التمييز يعرف عيوبه، والتوفيق والسداد بيد الله ـ
نسأل الله صلاح قلوبنا والهداية والتوفيق والسداد.
(1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(3470)، مُسْلِمٌ(2766).
(2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(3062)، مُسْلِمٌ(111).
(3) رَوَاهُ مُسْلِمٌ(2654).
(4) رَوَاهُ مُسْلِمٌ(2804).
(5) «إحياء علوم الدين»(3/27).
(6)«صيد الخاطر» (14).
(7)«مدارج السالكين»(1/439).
(«حلية الأولياء»(5/288).
(9)«حلية الأولياء»(2/112).
(10) ناتل بن قيس بن زيد الشامي الفلسطيني أحد الأمراء لمعاوية وولده, أبوه قيس صحابي.
(11) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1905).